سورة الدخان - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


قوله عز وجل: {حموالكتابِ المُبينِ} قد تقدم بيانه المؤمن والزخرف، وجواب القسم {إِنّا أنزَلْناه}، والهاء كناية عن الكتاب، وهو القرآن {في ليلةٍ مباركة} وفيها قولان:
أحدهما: أنها ليلة القدر، وهو قول الأكثرين، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ من عند الرحمن ليلة القدر جُملةً واحدةً، فوُضع في السماء الدنيا، ثم أُنزِلَ نجوماً. وقال مقاتل: نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا.
والثاني: أنها ليلة النصف من شعبان، قاله عكرمة.
قوله تعالى: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ} أي: مخوِّفين عقابنا.
{فيها} أي في تلك الليلة {يُفْرَقُ كلُّ} أي: يُفْصَل. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: {يْفِرقُ} بفتح الياء وكسر الراء {كُلَّ} بنصب اللام. {أمرٍ حكيمٍ} أي: مُحْكَم. قال ابن عباس: يُكتَب من أُمِّ الكتاب في ليلة القَدْر ماهو كائن في السنة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحاج، وإِنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ماروي عن عكرمة أن ذلك في ليلة النصف من شعبان، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها، فروي عن عكرمة أنه قال في ليلة القَدْر، وعلى هذا المفسرون.
قوله تعالى: {أمراً من عندنا} قال الأخفش: {أمراً} و{رحمةً} منصوبان على الحال؛ المعنى: إِنّا أنزِلْناه آمرِين أمراً وراحمين رحمة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوباً ب {يُفْرَقُ} بمنزلة يُفْرَقُ فَرْقاً، لأن {أمراً} بمعنى {فَرْقاً}. قال الفراء: ويجوز أن تُنصب الرحمة بوقوع {مرسِلِين} عليها، فتكون الرحمة هي النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: {مرسِلِين} بمعنى منزِلِين هذا القرآن، أنزْلناه رحمةً لِمَن آمن به. وقال غيره: {أمراً من عندنا} أي: إِنا نأمر بنَسخ ما يُنسخ من اللوح {إِنّا كنّا مُرْسِلِين} الأنبياء، {رحمةً} منّا بخَلْقنا {ربِّ السموات} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {ربُّ} بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {ربِّ} بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {بَلْ هُمْ} يعني الكفار {في شكٍّ} مما جئناهم به {يَلعبون} يهزؤون به.


{فارتقِبْ} أي: فانتظر {يومَ تأتي السماءُ بدخانٍ مبينٍ} اختلفوا في هذا الدخان ووقته على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة، فروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدُّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام». وروى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوتُ على ابن عباس ذاتَ يوم، فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحتُ، قلت: لم، قال: طلع الكوكب ذو الذَّنَب، فخشيتُ أن يطرق الدخان، وهذا المعنى مروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن.
والثاني: أن قريشاً أصابهم جوع، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخاناً من الجوع؛ فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فدخل علينا رجل، فقال: جئتُكَ من المسجد، وتركتُ رجلاً يقول في هذه الآية {يوم تأتي السماءُ بدخانٍ مُبينٍ}: يغشاهم يومَ القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبَهم منه كهيئة الزكام؛ فقال عبد الله: من عَلِم عِلْماً فلْيَقُل به، ومن لم يَعْلَم فلْيَقُل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لمّا استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنيِّ يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة، وجعل الرجلُ ينظُر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا {ربَّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمِنون}، فقال الله تعالى: {إِنّا كاشِفو العذابِ قليلاً إِنكم عائدون}، فكشف عنهم، ثم عادوا إِلى الكفر، فأخذوا يومَ بدر، فذلك قوله: {يومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبرى}، وإِلى نحو هذا ذهب مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وابن السائب، ومقاتل.
والثالث: أنه يوم فتح مكة لمّا حُجبت السماءُ بالغبرة، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {هذا عذابٌ} أي: يقولون هذا عذابٌ.
{ربَّنا اكشِفْ عنّا العذاب} فيه قولان:
أحدهما: الجوع.
والثاني: الدخان. {إِنّا مؤمِنون} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
{أنَّى لهم الذِّكرى} أي: من أين لهم التذكُّر والاتِّعاظ بعد نزول هذا البلاء، {و} حالهم أنه {قد جاءهم رسول مبين} أي: ظاهر الصِّدق.
{ثم تولَّوْا عنه} أي: أعرضوا ولم يقبلوا قوله: {وقالوا مُعَلمَّ مجنونُ} أي: هو معلَّم يعلِّمه بشر مجنون بادعائه النُّبوَّة؛ قال الله تعالى: {إِنّا كاشفوا العذابِ قليلاً} أي: زماناً يسيراً. وفي العذاب قولان:
أحدهما: الضُّرُّ الذي نزل بهم كُشف بالخِصب، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل كشفه إِلى يوم بدر.
والثاني: أنه الدخان، قاله قتادة.
قوله تعالى: {إِنكم عائدون} فيه قولان:
أحدهما: إِلى الشرك، قاله ابن مسعود.
والثاني: إلى عذاب الله قاله قتادة.
قوله تعالى: {يومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبرى} وقرأ الحسن، وابن يعمر، وأبو عمران: {يومَ تُبْطَشُ} بتاء مرفوعة وفتح الطاء {البَطْشَةُ} بالرفع. قال الزجاج: المعنى واذكر يومَ نَبْطِش. ولا يجوز أن يكون منصوباً بقوله:{منتقِمون}، لأن ما بعد {إنّا} لا يجوز أن يعمل فيما قبلها.
وفي هذا اليوم قولان:
أحدهما: يوم بدر قاله ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وأبو هريرة، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك.
والثاني: يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن. والبَطْش: الأخذ بقوَّة.


قوله تعالى: {ولقد فتَنّا} أي ابتَلَينا {قَبْلَهم} أي: قَبْلَ قومك {قومَ فرعون} بارسال موسى إِليهم {وجاءهم رسولٌ كريمٌ} وهو موسى بن عمران.
وفي معنى {كريم} ثلاثة أقوال.
أحدها: حسن الخُلُق، قاله مقاتل.
والثاني: كريم على ربِّه، قاله الفراء.
والثالث: شريفٌ وسيطُ النسب، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: {أن أدُّوا} أي: بان أدُّوا {إِليَّ عبادَ الله} وفيه قولان:
أحدهما: أدُّوا إلى ما أدعوكم إليه من الحق باتِّباعي، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب {عبادَ الله} بالنداء قال الزجاج: ويكون المعنى أن أدُّوا إِليَّ ما آمُركم به يا عباد الله.
والثاني: أرسِلوا معي بني إِسرائيل، قاله مجاهد، وقتادة، والمعنى: أطلِقوهم من تسخيركم، وسلِّموهم إِليَّ.
{وأن لا تَعْلُوا على الله} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس.
والثاني: لا تعتوا عليه، قاله قتادة.
والثالث: لا تعظَّموا عليه، قاله ابن جريج {إنِّي آتيكم بسلطان مبين} أي: بحجة تدل على صدقي.
فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال: {وإِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجُمونِ} وفيه قولان:
أحدهما: أنه رجم القول، قاله ابن عباس؛ فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون.
والثاني: القتل، قاله السدي. {وإِن لم تؤمِنوا لي فاعتزلونِ} أي: فاتركوني لا معي ولا علَيَّ، فكفروا ولم يؤمنوا {فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء} قال الزجاج: من فتح {أنَّ} فالمعنى: بأن هؤلاء؛ ومن كسر، فالمعنى: قال: إِن هؤلاء، {وإِنّ} بعد القول مكسورة. وقال المفسرون: المجرمون. هاهنا: المشركون.
فأجاب اللهُ دعاءه، وقال {فأسْرِ بعبادي ليلاً} يعني بالمؤمنين {إِنكم متَّبَعونَ} يتبعكم فرعون وقومه؛ فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون سبباً لغرقهم.
{واترُكِ البحر رَهْواً} أي ساكناً على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخُلَه فرعون وجنوده. والرَّهْو: مشيٌ في سُكون.
قال قتادة: لمّا قطع موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: {واترك البحر رَهْواً}، أي كما هو طريقاً يابساً.
قوله تعالى: {إِنهم جُنْدٌ مُغْرَقون} أخبره الله عز وجل بغرقهم لِيَطْمَئِنَّ قلبُه في ترك البحر على حاله.
{كم تَرَكوا} أي: بعد غرقهم {مِنْ جَنَّاتٍ} وقد فسرنا الآية في [الشعراء: 57]. فأما النَّعمة فهو العيش اللَّيِّن الرغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه [يس: 55] إِلى قوله: {وأَوْرَثْناها قوماً آخَرين} يعني بني إسرائيل.
{فما بَكَتْ عليهم السماءُ} أي: على آل فرعون وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الحقيقة؛ روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِنْ مُسْلِمٍ إٍلاّ وله في السماء بابان، باب يصعَدُ فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه»
وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية. وقال علي رضي الله عنه: إِن المؤمن إذا مات بكى عليه مُصَلاّه من الأرض ومَصْعَد عمله من السماء، وإِن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مُصَلّى ولا في السماء مَصْعَد عمل، فقال الله تعالى: {فما بَكَتْ عليهم السماء والأرض}، وإِلى نحو هذا ذهب ابن عباس، والضحاك، ومقاتل، وقال ابن عباس: الحُمرة التي في السماء: بكاؤها. وقال مجاهد: ما مات مؤمن إِلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقيل له: أو تَبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟!. وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره، فيها دَويّ كَدَويَّ النحل؟!.
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله الحسن، ونظير هذا قوله تعالى: {حتى تَضَعَ الحربُ أوزارَها} [محمد: 4]، أي: أهل الحرب.
والثالث: أن العرب تقول: إِذا أرادت تعظيمَ مَهِلكِ عظيمٍ: أظلمت الشمسُ له، وكَسَفَ القمرُ لفقده، وبكتْه الرّيحُ والبرقُ والسماءُ والأرضُ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعاً متواطئون عليه، والسّامِعُ له يَعرف مذهبَ القائل فيه؛ ونيَّتُهم في قولهم: أظلمت الشمسُ كادت تُظْلِم، وكَسَفَ القمرُ: كاد يَكْسِف، ومعنى {كاد}: هَمَّ أن يَفعَل ولم يفعل؛ قال ابن مُفَرِّغ يرثي رجلاً:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ *** والبَرْقُ يَلْمَعُ في غَمامَهْ
وقال الآخر:
الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بكاسِفةٍ *** تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ والْقَمَرا
أراد: الشمسُ طالعةٌ تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسِفةً النجومَ والقمرََ، لأنها مُظْلِمةٌ، وإِنما تَكْسٍفُ بضوئها، فنجُومُ الليل باديةٌ بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باكٍ، ولم يَجْزَعْ جازعٌ، ولم يوجد لهم فَقْدٌ، هذا كلُّه كلامُ ابن قتيبة.

1 | 2